قصة نجاح مزيف شركة Builder.ai من يونيكورن إلى الإفلاس

منذ أيام وأنا أحاول استيعاب ما حدث، لا يمكنني تجاوز الخبر دون مناقشته. لنبدأ بفهم بعض النقاط الأساسية عن شركة Builder.ai قبل معرفة تفاصيل الحكاية.
من هي Builder.ai؟
Builder.ai هي منصة لتطوير البرمجيات (Software Development) تجربة إستخدامها تشبه تجربتك في "محل البيتزا"، حيث يمكنك طلب تطبيق أو موقع إلكتروني بمواصفات محددة، سواء كانت عادية أو غريبة، وتقوم المنصة بتنفيذه لك. تأسست الشركة عام 2016، ويدل اسمها على اعتمادها المزعوم على الذكاء الاصطناعي في بناء المنتجات.
انتشرت مكاتبها من الهند إلى إنجلترا وأمريكا، وحققت استثمارات ضخمة تجاوزت 500 مليون دولار، بلغت قيمتها السوقية في ذروتها أكثر من مليار دولار (ليصبحوا "يونيكورن"). ومن بين مستثمريها كيانات كبرى مثل: مايكروسوفت، سوفت بنك، جهاز قطر للاستثمار، وإنسايت بارتنرز.
كانت الشركة تقدم مساعدًا افتراضيًا (AI Assistant) لمساعدة العملاء في اختيار المكونات البرمجية اللازمة لبناء مشاريعهم التقنية كأنهم يتسوقون من السوبرماركت، لكن ما حدث بعد ذلك كان صادمًا.
انهيار مدوٍّ: إفلاس مفاجئ وفضائح مالية
بعد هذه المقدمة، حان الوقت للكشف عن الكارثة التي حلت بالشركة. فجأة ودون سابق إنذار، أعلنت Builder.ai إفلاسها، لتسقط من قمة النجاح إلى هاوية الانهيار. الأزمة بدأت بتسريح مفاجئ لأكثر من 1500 موظف (بعض التقارير تشير إلى 1000)، تاركين وراءهم فوضى عارمة. المشاريع المتعثرة توقفت فجأة، تاركة العملاء في موقف مأساوي، حيث ظهرت شكاوى صادمة على منصة LinkedIn، منها عميل دفع أكثر من 65 ألف دولار دون أن يستلم أي كود برمجي أو حتى أثر للمشروع. الأزمة تتفاقم مع كشف النقاب عن ديون ضخمة متراكمة للبنوك والمؤسسات المالية، فيما لا تزال المفاوضات جارية حول كيفية سداد هذه الديون، في مشهد يلخص فشلاً ذريعاً لإدارة من المفترض إنها علي خبرة كبيرة بإدارة الشركات الناشئة كانت يوماً ما تتباهى بقيمتها المليارية.
الفجوة بين الادعاء والواقع
لطالما لفتت Builder.ai الأنظار بحضورها القوي في أهم الفعاليات التقنية وريادة الأعمال بين أوروبا وأمريكا و الخليج. خلال زياراتي المتكررة لأجنحتهم، كان يبدو العرض جذاباً - شاشات تفاعلية واعدة، و ديمو ليوضح مدي قوة و سهولة تجربة عمل البيتزا -طلب تطبيق أو موقع إلكتروني من علي منصتهم- وفريق متحمس يروّج لحلول "ذكاء اصطناعي" ثورية. كانت يراودني احساس أن الفكرة ممتازة وقوية، ولكن مقارنة بين الوعود البراقة للفكرة والتكلفة تؤدي الى ربية كبيرة وأشعر أن هناك خطأ ما والنتيجة سوف تكون مختلفة تماماً عما يروج له. فبينما تدعي الشركة تقديم حلول آلية بالكامل، كانت المشاريع تُنفذ يدويًا بواسطة مبرمجين من الهند وشرق أوروبا من خلف الشاشات لينفذوا ما يطلب مهم بشكل عشوائي، وبالتأكيد من غير فهم حقيقي ودقيق لاحتياجات العملاء أو تكامل فعلي في عملية التطوير. حدث هذا على الأقل حتى 2021 و أشك أن حصل تغيير جذري بعد هذا التاريخ و لكن إحتمال كبير إنه استمر حتى الآن فأدى لهذا الانهيار.
الأكثر إثارة للدهشة أن الشركة كانت تبالغ في إيراداتها المعلنة بشكل متعمد مما كشف عن تلاعب فاضح بأرقام الشركة، ففي 2024، أعلنت الشركة تحقيق 220 مليون دولار إيرادات، بينما كان الرقم الحقيقي لا يتجاوز 55 مليوناً! نفس السيناريو تكرر في 2023، حيث زعمت تحقيق 180 مليون دولار، بينما الإيرادات الفعلية لم تتجاوز 45 مليونًا! هذه الممارسات تكشف ثقافة خطيرة في عالم الشركات الناشئة، حيث يتحول تضخيم الأرقام إلى استراتيجية مقصودة لخداع المستثمرين والجهات الداعمة والمسابقات واستطلاعات الرأي داخل الأنظمة الإيكولوجية، كل ذلك بدلاً من بناء نموذج عمل حقيقي وقابل للاستمرار والنمو.
أزمة صناعة التكنولوجيا: عندما تتحول الضجة إلى فقاعة
ما يحدث مع Builder.ai ليس مجرد حالة فردية، بل يعكس أزمة عميقة في قطاع التكنولوجيا اليوم محلياً في مصر وعالمياً أيضً. عشرات الشركات تروج نفسها كشركات "ذكاء اصطناعي AI" بينما لا تمتلك تقنيات وقدرات حقيقية وراسخة في المجال، مستفيدة من عدم عمق المعرفة التقنية لدى الكثيرين سواء كانوا مستخدمين أو مستثمرين. الأصعب أن هذه الشركات تجذب استثمارات ضخمة (مثل نصف مليار دولار في هذه الحالة) دون مراجعة كافية من خبراء تقنيين متخصصين بينما تفشل شركات أخرى كثيرة واعدة توقفت بسبب نقص تمويل بسيط في حجم الـ 200 ألف دولار. أنت في هذه الحالة ليست بحاجه الى خبير في الاستثمار بقدر ما تحتاج الى خبير تقني، فكيف لشركة مدعومة من عمالقة مثل سوفت بنك وقطر للاستثمار ومايكروسوفت أن تسقط بهذه السهولة؟ الإجابة تكمن في ثقافة "تجميل الصورة الحقيقة" التي انتشرت وكانت معروفه قديماً بالمقولة المشهورة "أنا لا أكذب، ولكن أتجمل"، حيث أصبح تضخيم الأرقام وسيلة مقبولة لجذب المستثمرين، بدلاً من التركيز على الاستدامة وإيجاد العملاء.
ظاهرة "Blitz scaling" أو النمو السريع الجنوني أصبحت سرطاناً يفتك بالقطاع التقني تحديداً وبجميع الشركات الناشئة في أغلب القطاعات. الشركات تسابق الزمن للتوسع قبل إثبات جدوى منتجاتها وقبل أن تتأكد من ملاءمة المنتج للسوق Product Market Fit وملاءمة الشركة للسوق Business Market Fit ثم تتفاجأ بعدم وجود سوق حقيقي لما تقدمه. هذه النقطة من المفترض أن تكون بديهية وهي بالغة الأهمية ولكن للأسف كثير جداً ما يغفلها المؤسسون والجهات الداعمة في مرحلة التأسيس كحاضنات الأعمال والمسابقات مثل ما حدث مع مؤسس شركة كبيرة بهذا الحجم.
الجوائز والتكريمات ليست المقياس الحقيقي للنجاح
المفارقة أن Builder.ai حصلت على كثير من جوائز كأسرع الشركات نمواً والأفضل و ... و ... إلخ، بينما كانت أرقامها مزيفة! هذا يطرح سؤالاً خطيراً: كم من الشركات الحقيقية تخسر فرصها بسبب منافسة وهمية؟ الأثر التدميري لا يقتصر على المستثمرين فحسب، بل يمتد ليقتل ثقة السوق بكل الشركات الناشئة حتى الجادة منها ويدمر مجتمع ريادة الأعمال وبالأخص في الأسواق الناشئة مثل مصر. هذه القصة يجب أن تكون جرس إنذار للجميع: كفى ضجة بلا مضمون، وكفى نمواً بلا أسس.
درس يجب أن يتعلمه الجميع
في النهاية هذه القصة تطرح ضرورة أن جميع الأطراف المعنية في عملية بناء الشركات الناشئة من مستثمرين ورواد أعمال وخبراء و موجهين وجهات داعمة وجهات حكومية أن تدرس بدقة مثل هذه الحالات لاستخلاص ما يمكن تعلمه وتنفيذه لتجنب مثل هذه النتائج. كذلك تثير هذه القصة التساؤلات حول دور المستثمرين وضرورة وجود خبراء تقنيين في عملية التقييم بجانبهم، بدلًا من الانجراف وراء الأرقام المزيفة.
الأمر يتجاوز مجرد ذكر مثل قصة هذه الشركة كدراسة حالة في العروض التقديمية، أو مناقشتها بشكل سطحي في المؤتمرات والقمم. المطلوب الآن هو تحويل هذه الدروس إلى إجراءات عملية: توجيه البوصلة نحو المسار الصحيح، وضمان أن يتولى عملية بناء الشركات الناشئة أشخاص على دراية حقيقية بمتطلبات السوق ومعرفة عميقة بالتكنولوجيا التي يعملون فيها. الأهم من ذلك، يجب أن نعمل جميعاً على بناء ثقافة تقوم على الشفافية والمصداقية وريادة الأعمال المبينة على الدلائل، حيث يتم تطوير المنتجات بناءً على أرقام وقياسات حقيقية وليس وعوداً وهمية. هذه ليست مجرد نصيحة، بل أصبحت ضرورة حتمية لضمان مستقبل أكثر استقراراً لقطاع ريادة الأعمال بعيدًا عن الصور التذكارية والتضخيم والادعاءات التي تؤدي في النهاية إلى كوارث مثل إفلاس Builder.ai.
موقع إبداع مصر غير مسؤول عن مضمون التعليقات