أنت هنا

نحن بحاجة إلى الابتكار في نموذج عمل العلوم

منذ 7 سنوات 5 أشهر

تم إعادة نشر هذه المقالة من: Innovation Excellence

في عام 1945، قدم فانوفر بوش -الرجل الذي قاد جهود أمريكا العلمية خلال الحرب العالمية الثانية- عرضًا على الرئيس هاري ترومان، بتمويل البحث العلمي في عالم ما بعد الحرب. كان العرض بعنوان: العلم، الأفق اللانهائي، وقاده هذا إلى تكوين وكالات مثل NSF، وNIH، وDARPA وغيرها الكثير. كانت النتيجة أكثر من مذهلة. فقد مولت وكالة NSF ابتكارات مثل ماسحات الباركود، ومواد الجيل التالي. كما دعمت NIH مشروع الجينوم البشري بالإضافة إلى الأبحاث التي أدت إلى بعض من أكثر العلاجات أهمية، بينما أهدت DARPA إلى العالم شبكة الإنترنت.

إنه سجل حافل مثير للإعجاب، لكن المستقبل لا يبدو لامعًا مثل الماضي. فجزء من المشكلة أن التمويل قد انخفض كثيرًا في السنوات الأخيرة. لكن ممارسة العلم لا تزال بحاجة لكثير من التحديث. لقد تغير الكثير في الـ70 عامًا التي تلت عام 1945. ولكي نكرم تراث بوش، ونحافظ على ريادة أمريكا التكنولوجية، لابد أن نأتي به إلى العصر الحديث.

نموذج بوش

على مدار معظم سنوات التاريخ، كان العلماء رجالًا ذوي موارد. فعلى الرغم من أن بعضهم أتى من أصول متواضعة، مثل جوس وفاراداي، إلا أن معظمهم كانوا أناسًا أغنياء كان لديهم الموارد والوقت الكافي لكي يبحثوا عن إجابات لتساؤلاتهم العلمية. أما في القرن العشرين، فقد اتسعت الدائرة لتشمل مجموعة صغيرة من الباحثين الجامعيين، لكن العلم ظل مقصورًا على نادٍ بعينه من أصحاب الأموال.

استطاعت الحرب العالمية الثانية تغيير ذلك كله. قاد فينوفر بوش -كرئيس لـوكالة OSRD- الحكومة لمجال العلوم، ودفعها لتمويل مشروعات بحثية ضخمة أدت غلى تطوير فيوزات التقارب، الرادار والاختراع الأشهر: القنبلة الذرية. بعد انتهاء الحرب، وهنا ظهرت تساؤلات عن الشكل الذي قد يتخذه التمويل العلمي في عصر السلم.

لاحظ بوش أن معظم الأبحاث التي تمت في الصناعة والحكومة كانت ذات طبيعة تطبيقية بدلًا من أن تكون نظرية. وقد جادل أيضًا أنه بدون تمويل البحث النظري اللازم لتوسعة حدود معرفتنا، فإن التطور في مجال التطبيقات التكنولوجية سيكون محدودًا، مما يهدد أمن أمريكا القومي، وصحة شعبها وسلامة اقتصادها.

لذا كان الهيكل الذي اقترحه بوش أن يتم تمويل البحث في المؤسسات الخارجية بدلًا من داخل الحكومة أو الصناعات. وأن يتم إعطاء المنح كل عدة سنوات وليس كل سنة، كي نوفر الاستقرار. وأن يتم نشر الأبحاث على نطاق واسع ليضمن نشر المعرفة. خدمت هيكلية بوش بشكل جيد، وحولت الولايات المتحدة إلى قوة علمية وتكنولوجية عظمى. لكن من أجل الحفاظ على التفوق، لابد أن نبتكر في الطريقة التي نسعى بها وراء الاكتشافات.

رعاية التعاون على نطاق أعمق وأوسع

أحد الافتراضات البديهية في عرض بوش كانت أن المؤسسات ستكون هي مركز الحياة العلمية. وأن العلماء من معامل مختلفة سيقرأون أوراق بعضهم البعض، ويجتمعون في مؤتمرات دورية، لكنهم في الغالب سيعتمدون على شبكة من الباحثين داخل مؤسساتهم والمؤسسات المحيطة بهم.

أحيانًا، كان للتفاعل بين المؤسسات تأثيرات كبرى وتاريخية مثل رعاية جون فون نيومان لآلان تيورينج، لكن معظم العمل الذي كان يقوم به الباحث كان مرتبطًا بالمكان الذي يعمل به. إن تقارب  واطسون وكريك وروزاليند فرانكلين وموريس وليكنز على سبيل المثال وعملهم في نطاق قريب من بعضهم البعض، هو ما لعب دورًا كبيرًا في اكتشاف تركيب الحمض النووي.

أما الآن فقد غيرت التكنولوجيا الرقمية لا سرعة وسهولة التواصل فحسب، بل الطبيعة التي يمكننا أن نتواصل بها. عندما تحدث مع جوناثان آدامز، رئيس الباحثين في ديجيتال ساينس، والتي تطور وتستثمر في برمجيات تجعل العلم أكثر كفاءة، لاحظ آدامز أن هناك تغييرًا جذريًا يحدث في الخلفية.

"عندما تتحدث إلى أشخاص مثلي، فإننا علماء بارزون لايزالون محبوسين داخل النظام القديم من المؤسسات والمؤتمرات. لكن العلماء الشباب يستخدمون التكنولوجيا ليتواصلوا ويقومون بذلك بشكل مستمر. اليوم لا تحتاج إلى حضور مؤتمر أو قراءة ورقة بحثية لتتبادل الأفكار مع غيرك."

يبدو هذا واضحًا بالدليل، فقد لاحظت دورية العلوم المرموقة "نيتشر" مؤخرًا أن متوسط عدد المؤلفين في الورقة البحثية صار أربعة اضعاف ما كان عليه في الخمسينات، عندما كان عمل بوش في قمة تالقه. وبالإضافة لذلك، فقد صار أكثر شيوعًأ أن يكون هناك مؤلفون مساعدون يعملون في مؤسسات بعيدة تمامًا عن بعضها. ولابد للممارسة العلمية أن تتبنى هذه الحقيقة.

لقد تم إحراز بعض التقدم في هذه المنطقة. الإنترنت مثلًا، كان الهدف الرئيسي من صنعه هو تحقيق التعاون العلمي. لكن لازالت الطريقة التي يقدم بها العلماء تقاريرهم ويشاركون ما وجدوه كما هي منذ القرن الماضي.

الانتقال من المنشورات إلى المنصات في الاكتشاف

إحدى المناطق الجاهزة بالنسبة للابتكار هي النشر. في المعتاد ينتظر أي باحث لديه كشف جديد قرابة الست شهور إلى السنة كي يمر بعملية مراجعة زملائه قبل أن يتم نشر عمله. وحتى عندها، تكون الكثير من النتائج محل شك. وقد أبلغت "نيتشر" مؤخرًا أن عددًأ مهولًا من الدراسات لا يمكن تكرارها.
يسمي الكثيرون هذا الموقف بأزمة التكرار. يقول دنكان واتس، باحث أساسي في مايكروسوفت أن "الدوريات العلمية شديدة التحيز تجاه الاكتشافات الجديدة. ليس هناك أي حافز يدفع الباحث غلى تكرار بحث قام به غيره. ومن الصعب أن تجد من يمول عملًا كهذا كما أنه من الصعب نشره. من غير المتداول تقريبًا أن يبني أحدهم حياته العملية على انتقاد عمل الآخرين بتكرار تجاربهم والتحقق من نتائجها.

إحدى الحلقات مؤخرًأ تبرز أهمية هذه القضية. في عام 2010، نشر كارمن رينهارت وكينيث روجوف ورقة عمل حذرت من أن دين الولايات المتحدة يقترب من مستوى حرج. وكما تبين فيما بعد، فقد قاموا بخطأ بسيط في برنامج إكسل، ولولا أن القضية تم تناولها على مستوى سياسي واسع، لم يكن أحد ليجد خطأً كهذا.

ولهذا فإنه من الواضح أننا نحتاج غلى الذهاب لما هو وراء نشر الأوراق البحثية والجداول والرسوم البيانية، وأن نتحرك إلى منصات تتضمن البيانات المفتوحة بالإضافة إلى النتائج السلبية. كما يقول جوناثان آدامز من ديجيتال ساينس: "إننا بحاجة إلى الانتقال إلى عملية ملتفة لا تبدأ وتنتهي بالنشر، وتتضمن النتائج السلبية كما تهتم بالنتائج الإيجابية.

وقد بدأنا نرى بعض الابتكار في هذا الصدد. أريكسيف ArXiv، وهو مشروع في جامعة كورنيل، يسمح للعلماء بالنشر لأنفسهم. كذلك ماكميلان - وهم من أكبر الناشرين- أعلنوا مؤخرًا عن مبادرة جديدة مثيرة للاهتمام، وأدوات مثل آي بايثون نوتبوك iPython Notebook، والتي تم تصميمها خصيصًا لترعى المزيد من التعاون. لكن لازال هناك الكثير مما يمكنا فعله.

السياسة وراء الاستثمار العلمي

عندما قدم بوش عرضه الشهير للتمويل العام للبحث العلمي، كانت الولايات المتحدة قد هزمت لتوها هتلر وحلفاءه بمساعدة معجزات علمية مثل الرادار والقنبلة الذرية. وقد خلق هذا دعمًا ضخمَا دفع التمويل العام لدعم العلم بهدف تحسين القطاع الخاص كما حسن الدفاعات القومية. لكن الزمن تغير للأسف.

اليوم هناك حرب حقيقية على العلم، إذ يسارع السياسيون لكسب نقاط سياسية سريعة باتهام الباحثين بتبديد الأموال أو بمجرد إعلان أن العلم غير ذي أهمية للمشكلات الحالية. إد لازوسكا، والذي كان أحد رؤساء لجنة بوش لاستشارات تكنولوجيا المعلومات، يرى هذا كسوء فهم أساسي يصيب الطريقة التي يحدث بها الابتكار.

"هناك سوء فهم كبير في أقسام البحث والتطوير في الصناعات الحالية، فمعظم ما يقومون به هو التطوير لا البحث" كما أشار لجوجل إكس كمثال. فبينما قامت جوجل بمخاطرات كبيرة عدة بتبنيها أشياء كالسيارات ذاتية القيادة، فإن البحث النظري تم تمويله بواسطة الحكومة الفدرالية من خلال مؤسسات مثل NSF و DARPA، لذا كانت المخاطرة التكنولوجية قليلة نسبيًا.

كما أشار إلى مبدأ الملاءمة كأساس للتفكير في التمويل العلمي. إن الصناعات والشركات الكبرى لابد أن يكون لديها بعض التحيز تجاه ما توجه استثماراتها نحوه، محكومة بما سيفيدهم بشكل مباشر. ولهذا فإن التمويل العام هو المصدر الأكثر ملاءمة لكي يدعم البحوث الاساسية، والتي تؤدي إلى تطبيقات غير واسعة فحسب، بل أحيانًا غير متوقعة.

يقول لازاوسكا كذلك أن قادة السوق ربما يكون لديهم الرغبة في الاستثمار في تساؤل علمي يفيد صناعتهم بشكل واسع وذكر مايكروسوفت وآي بي إم بالتحديد كشركتين تستثمران في البحث النظري وتنشران بشكل مفتوح. لكنهما الاستثناء وليستا القاعدة.

دعم الاستكشاف والاكتشاف

عندما صنع فانوفر بوش الـ ORSD، الوكالة التي أشرفت على البحث في وقت الحرب، كانت طريقة التمويل التي اقترحها مبتكرة بل وثورية. فبدلًأ من جعل البيروقراطيين الحكوميين يشرفون مباشرة على العلماء، فقد قدم منحًا للمؤسسات العلمية للقيام بمشروعات محددة. كان نظامًا قائمًا على المسؤولية وليس الخضوع.

في عرضه لتكوين وكالة جديدة، -التي أصبحت فيما بعد الـ NSF- كان بوش شديد الثقة أن العلماء أنفسهم سوف يوافقون على التمويل لدرجة أنه دعم التشريعات التالية لذلك لعدة أعوام. ولفترة مؤقتة، سيطر الجيش على تمويل البحث العلمي.

اليوم يسيطر الجيش على ميزانية البحث في حكومة الولايات المتحدة، مكونًأ ما يزيد قليلًا عن نصف الميزانية كلها. وبالمقارنة فإن وكالة NSF تحصل على 4 في المائة فقط. وقد أدى هذا إلى نفس الموقف الذي خافه بوش، تركيز مبالغ فيه على تطوير التطبيقات بدلًأ من توسيع آفاق التمويل العام للبحث العلمي.

يمثل هذا الموقف تهديدًا خطيرًا لأمن أمريكا القومي. فكما يشير لازاوسكا: "إن قادة السوق من أكثر من المستفيدين من توسعة آفاق المعرفة". والولايات المتحدة كرائدة التكنولوجيا العالمية بلا منازع، يمكنها أن تحظى بأكبر قدر من المنافع من الاكتشافات الجديدة كما لديها الكثير لتخسره إذا تجاهلت الأبحاث النظرية.

وبطرق عدة، فإن قضية تمويل البحث العلمي تعكس الجدل القائم حول التدقيق في احتياطي البنك الفيدرالي. ويبقى الدور المهم للسياسيين أن يعكسوا الإرادة الشعبية وليس أن يتدخلوا في العملي التقني للعلماء.

كيف نتحرك إلى الأمام؟

إن العلم صناعة محافظة بطبعها. فالمؤسسة العلمية على بطئها وتثاقلها، تخدم كذلك الغرض الأسمى من حماية البحث من الفساد الذي قد يحدثه الباحثون عن الدعاية، والحمقى والشركات التي تود إحداث جدل تستغله من أجل أغراضها الخاصة.

لذا بينما نحتاج إلى تغيير الكثير من الممارسات التي تدفعنا إلى حيث نحن الآن -من حيث تعاون العلماء كي يجعلوا اكتشافاتهم في متناول العالم- فإننا لازلنا بحاجة إلى الإبقاء على رؤية بوش: تمويل الأبحاث النظرية لتوفير البذرة التي ستنبت منها تقنيات مثيرة جديدة.

والأهم من ذلك كله، إننا بحاجة إلى تقبل أن كلنا لدينا حصة في التمويل العام للعلوم. فبعد كل شيء، كان التمويل الحكومي هو ما جعل هاتف آيفون ممكنًا، وهو ما أدى إلى علاجات إعجازية وأدوية ضخمة النجاح، وهو ما أدى بنا إلى فك شفرة الجينوم البشري. وبدونه لكنا جميعًا أكثر فقرًا.

 

ارسل مقالك الآن أرسل ملاحظاتك